طيرٌ بلا جوّ، سمكة بلا بحر؟

سنة النشر : 15/11/2008 الصحيفة : الاقتصادية

 

"تقول إنك تحبني، ولكنك قليلا ما تظهر هذا الحبَّ. كنتَ في يوم ما تحلم بي، وتسعى جاهدا من أجلي .. ولما حصلتَ عليّ بعد لأي، بدا أنك لم تعد تبذل من أجلي بجدّ، ولم تنفذ أغراضي كما يجب، والسببُ أنك لما حصلت علي أخذتَ بالبداهة أني لن أتخلى عنك أبدا. كثير من الأحيان أتساءل إن كنتُ بالفعل أعني لك أي شيء على الإطلاق؟ ربما لو تخليت عنك لعرفت مدى أهميتي في حياتك، وكل ما أعمله من أجلك، فأنا وراء وضع الطعام على مائدة منزلك، وهذه الثياب النظيفة التي ترتديها، وأمن أولادك، أنا من يحقق لك طلباتك ورغباتك.. لولاي لما كانت لديك هذه السيارة المركونة في المواقف.. انتظرتُ طويلا كي أعرف حقيقةً متى تعي مدى أهميتي، وعظم احتياجك لي.. كلمتي الأخيرة، حتى لا أضطر للتخلي عنك: "راعني، كي استمر في رعايتك!"

من يقول هذا لنا جميعا؟ سأخبركم فيما بعد، وأعتقد أن معظمكم قد خمّن المقصود.

غريبٌ أننا لا نتعلم من ظروفنا، حتى لو كانت من وسط تجاربنا ومعاناتنا، فنحن دائما وراء أمر نريد أن نحققه أو نحصل عليه، والحكيم منا من يقدر ويقيّم ما يحققه وما يحصل عليه فيبقى مصانا ومعطاء بشكل أفضل وأداء أنفع، أكثرنا لا يفعل!

يجري الأولادُ اليوم وراء آبائهم وأمهاتهم من أجل الحصول على سيارة، ومتى حصلوا عليها، وقد اقتصّت حجما كبيرا من دخل العائلة، وتضحي بعضُ العائلات بحاجات أساسية لتحقق لأولادها حلم اقتناء سيارة، ثم ما إن يملك الولدَ سيارة يبدأ بالعبث بها وكأنها لعبة بأرخص الأثمان، وعلى المنوال ذاته يلعب بحياته.. لأننا نحضر لأولادنا ما يريدون، ثم ننسى أنه كان من حقهم، وأقول من حقهم علينا، ألا نسلمهم السيارة، أو الدراجة، أو البلاي ستايشن، أو المحمول إلا بعد أن نزرع في فهمهم ووعيهم فلسفة الاقتناء، ومعنى التملك، وأهمية الحرص على ما تملك.. ولكن في بيئة يتعلم فيها الأولادُ أن الكتبَ تُرمى آخر العام الدراسي، وأن المحمولَ يُغير أكثر من مرة فقط من أجل ميزات لا تعني شيئا بالنسبة لمهمته الأصلية.. وأن يُفصّل 20 ثوبا في السنة الواحدة، ويشتري شماغا كل شهر بلا فائدة مرئية أو ملاحظة، فنحن إذن الملامون، لأننا شكلنا بيئة غير مناسبة للمنطق، ثم نغضب على أولادنا لما لا يعرفون أن يعيشوا بالبيئة المنطقية..

إن اللهَ لم يخلق السمكة بزعانف وخياشيم إلا بعد أن خلقَ لها بيئة مناسبة وهي البحار كي تعيش وتسبح فيها، ولم يخلق الطيرَ إلا بعد أن خلق جوّاً ليحلق فيه، بل إن الله لم يضع في داخلنا التوقَ للخلود، إلا بعد أن أعد لنا حياة خالدة في يوم موعود ليطفئ الرغبة التي لا يوجد لها بيئة أرضية.. هناك دائما شيءٌ قبل أي شيء، هناك دوما تجهيزٌ قبل الشروع في أي مشروع، هناك دائما ما نسميه في تخطيطنا المدني أرضية تحتية كي نحرك النقلَ اللوجستي لنعمر البلاد، وهناك بيئة في القلب للمحبة قبل أن يتعارف الناس.. البيئة تسبق من سيعيش في البيئة، ولا بد أن تناسبه وإلا تمرد عليها أو تمردت عليه.. مجتمعنا لم يع هذا الواقع المنطقي في كثير من الأمور، فتكون حوادث السيارات، ويموت المدخنون بعد أن خانوا بيئة رئاتهم، وينتشر الكسل لأن بيئة الكسل موجودة، ويجول الإحباط لأن محفزاته كثيرة..

قل لي: كم يسعى الشابُ وأهلـُه ليحظى بزوجة مناسبة؟ هل لدينا عادة أن نجلس مع أبنائنا ونعدّهم ونعرّفهم وننصحهم ونثقفهم عن أهم شيء في حياة الشباب: الزواج؟ لن أجيب، لأن الإجابة يفصح عنها واقعُ عدد حالات الطلاق في المجتمع.

وقل لي: كم من الأعداد تسعى للحصول على العمل؟ كل يوم يزداد الحصول على وظيفة صعوبة، وبلا وظيفة أو عمل يتضاءل وجود الإنسان وتتدهور قيمته المعنوية ويحرم من ممارسة حياته كما يريد ولو بأقل ما يريد.. ولكن هل علمنا أحدٌ ثقافة العمل، والحرص عليه متى حصلنا عليه، وأدينا كامل مسؤولياته وشروطه؟ لذا كان من أسباب انتشار البطالة في مجتمعنا، وتعدد الخروج من الأعمال سواء بالرغبة أو بالفصل، هو أننا لم نثمن ما نحصل عليه ولا نستشرف ما ستكون عليه حالنا متى تخلينا عنه، أو تخلى عنا.. لو فهمنا معنى العمل وأهميته وتمسكنا به وطورناه، فإنه سيطورنا وسيرفع من قيمتنا، وسيرعانا..

أما إجابة صدر المقال، فما خمنتموه صحيح.. إنه: العمل!