سنة النشر : 08/09/2007 الصحيفة : اليوم
« أستاذ نجيب: أنا أب لبنت وحيدة، هي قلبي الذي ينبض بهذه الدنيا، وهي عيني التي أرى بها الجمال.. هي كل شيء. زوجتها بعد تردد، وحرص، وخوف لمن اعتقدت أنه من أفضل الناس، وإذا هي تهرب للسفارة السعودية في شهر عسلها لأن من وثقتُ به انقلب إلى صورته الحقيقية: وحشٌ سكير بهيئة بشر. بناتٌ يقضى عليهن مِن مَن لا يخافون الله بهن. خصص مقالة لتفضح بها أولئك الشباب، وتوجههم بطريقتك وكلماتك بحيث لا يتكرر ما حدث لابنتي.. ويمكنك أن تضع عنوان المقالة : رسالة من أب يبكي، واستحضر هنا قول الشاعر الأميري: قد يعجبُ العُذالُ من رجلٍ يبكي، ولو لم أبكِ فالــعـجبُ هيهات، ما كلّ البـُكا خَوَرٌ إني، وبي عزمُ الرجالِ، أبُ محبك: الأب الباكي:....» أيها الباكي لن أبكي. ولا تعتقد أني لا أفهم ألمك، فأنا أيضا أبٌ لبنتٍ وحيدة، وبعد سنين من الآن حين يتقدم لها أحدٌ سأكون في أم المعضلات.. ولكني لن أبكي.
والقصيدة التي استحضرتـَها اسمها ( أب) لعمر بهاء الدين الأميري، ويبرر البكاءَ للآباء.. ولكني لن أبكي.. لأن البكاء يعني ندب شيء لن يعود، ونفيسٍ ضاع، وجوهرٍ صار بخسا.. وهذا غير صحيح. فالبنتُ التي يتركها زوجها من أول الزواج، أو أول شهر العسل، أو يظهر لها شخصية سوداوية مظلمة بعد أن أغراها بالأنوار المزيفة، لا يستأهل أن أضيع عليه كلمة، وحسابه ليس عندي، ولكن عند من هو شديد الحساب.. ولكني لن أبكي، لأن البنت الجوهرة، التي قبل الزواج، هي البنت الجوهرة بعد هجران الزوج، أو هجرانها للزوج لأنه تمطى فصار ذئبا.
كتبت في سابق الأيام مقالة بعنوان:»لا تمزقا القصة» وذاعت وانتشرت، وتقول: إن القصة الوحيدة التي نكتبها فعلا هي قصة أي زواج. اثنان يكتبان كل يوم بلا حرف ولا حبر قصة من أعظم وأبقى قصص الحياة، كل يوم جديد، بكل تجاربه السعيدة والمؤلمة، وتتزايد الصفحاتُ مع الأولاد وتعقدات الحياة ومسئولياتها، وهما الاثنان صنعا القصة، ولا يعرفان النهاية إلا بعد أن يذهب آخر الأبناء إلى سبيله ويعودان كما بدءا، مجرد اثنين، ولكنهما كتبا أعظم قصص الحياة.. وكنت اسأل من يعِ هذه الحقيقة، فكيف يجرؤ أن يمزق القصة قبل أن تنتهي؟ ولكن، عدم البدء في القصة أحيانا، أفضل من تمزيقها بعد أن كُتبت بها صفحاتٌ وصفحات.
اليوم أخاطبُ البنت التي انتهت قصتها قبل أن تبدأ، حين كانت الليلة السابقة ليلة فرح وصخب وضحك وجمع، ثم يصبح الصباح وإذا هو شمع وذاب.. هيكل مزخرف ولكن من رمل فانهار.
وهنا عليك أيتها الفتاة ألا تبتئسي، لأن بيتَ الرمل إن استمر فسينهار عليك، ويسدّ مجاري الهواء والنَفس والحياة فيك ِما بقى لك نصيب من الحياة.. فهل ترضين بذلك؟ إذن، وقع التحذير قبل الواقعة، قبل الارتباط العظيم ارتباط الإنجاب.. وبالتالي، لن أبكي كما بكى الأب المحب، وأقول لابنته بالذات، قولي لأبيك إني أعتبر دموعك دموع فرح أنّ الله خلصني قبل أن تلتف علي الشباك، وتـُحكم ضدي المخارج، ثم لا أجد هربا من البؤس إلا إلى البؤس.. اليوم لا تمسح دمعاتك يا أبي، لأني أراها قطرات لؤلؤٍ تسرب على بشرتك لأني نجوتُ قبل المصيدة.. وعدت إليك، في حماك، عدت إلى قلبك الذي لم أخرج منه.. ولا تعتقد يا أبي أني فقدتُ شيئا، أو قلـّت قيمتي جزءا من أنملة، بل كبرت قيمتي، وعظمت تجاربي، وعرفت معنىً آخر للحياة بالدرس الواقع بلا ثمن فادح. وسأبقى يا أبي جوهرة نفيسة، ولا عيب يا أبي أن يرمي جاهلٌ جوهرة من يده يحسبها حجَرة، فالحجر إنما الذي في جمجمته، أما أنا فجوهرة في أي مكان، وأي ظرف.
أبي.. هناك سيدات فقدن الفرص، أول رجل كان خائبا، ولكنهن لم يعد لهن الخيار، أو لم يحصلن على الخيار، أما أنا فلا. ولن أفقد ثقتي بالزواج وإلا فقدتُ ثقتي بتعاليم ديني.. بل أعطيت فرصة أخرى كي أوفق يوما برجل أفضل وأنبل وأصفى ضميرا.. لذا دموعُك يا أبي هي ماءٌ عذبٌ يسقي زهرة قلبي.. كل بنت اسمعي، واسمعي جيدا.. لا تظني أن حياتك تتغير، أو تنقص أو تنتهي عند الطلاق الباكر، مهما كان السبب، بل هي حياة تبدأ من جديد. وأن الخاسر هو من تركك، ولست تخسرين شيئا لأنه تركك.
تذكري أن الشمس تتركنا نغفو في الظلام كي تشرق في فجر جديد، وتذكر أيها الأب الباكي أن الشمس أحيانا تنزاح وراء السحب، كي تبكي .. مطرًا!