العم صالح.. والزهايمر
سنة النشر : 01/06/2016
الصحيفة : اليوم
.. حينما كنت في إحدى مدن البلاد بدعوة، عزمت بعد المناسبة التي دعيت من أجلها أن أزور أستاذي العالم صالح- صالح اسم مستعار-.
لماذا كان مهمًا عندي زيارة العم صالح؟ العم صالح من الناس الذين صاغوا حياتي فعلا، أو أعادوا مسار حياتي لمسارٍ، بل لمساراتٍ أفضل.
كان العم صالح مثقفا «أسطوريا» إن حق لي استخدام هذه الصفة. العم صالح من المثقفين العصاميين، تماما كالعقاد وغيره من اساطين الفكر إلا أنه متوارٍ. قضى حياته بالوظيفة الحكومية ثم مارس التجارة ونال نصيبا متواضعا من النجاح- إلا أن أبناءه بعده حققوا نجاحات جيدة في ميادين متعددة من الأعمال- وكان العم صالح قارئا متفوقا واستثنائيا، ومن أول من تابعني من القراء لما كنت أتدرج كاتبا صغيرا متحمسا أجتهد على مقالاتي معرفيا لأحقق لي مكانا ضمن الكتاب، حين بدأ يتواصل معي العم صالح بجهاز الفاكس، وكانت رسائله تصل إلى مكتوبة بخط يده الجميل، ويكتب حرف الهاء بطريقة مبتكرة، وصرت أنا أكتبها مثله بلا شعور.. ربما هذا الإعجاب القوي ما جعلني أتعلق برسائل العم صالح كما يتعلق طفل بهدايا ونفحات العيد. كان تدريب وتوجيه العم صالح لي ليس مباشرا أبدا بل ذكيا، وكأنه يعلق على المقال ولكن يبث بين السطور توجيهات كالشفرة صرت أعرف فكها وأستفيد منها. من بعد رسائل العم صالح تغير أسلوب ومواضيع وطريقة كتاباتي كثيرا.
ثم إني تواصلت مع العم صالح هاتفيا ولا أنسى صوته الفخم الذي يأتي عميقا صلدا واضح الحروف مؤكدا على العبارات. ثم قدر الله لي حظا أكثر فاجتمعنا في البحرين والكويت والرياض أكثر من مرة في مناسبات عائلية له، وأرحل لمقابلته مغتبطا لأنه يدعوني في كل مرة بهذه الجملة التي لا أنساها - طالما كانت ذاكرتي واعية- «لو تمكنتم من التواجد في (البلد الفلاني) فستكون فرصة للاجتماع بكم، ولكن لا تتعمدوا الكلفة». ودوما تكون جلسات فوق السحاب فله طريقة سهلة في التنقل في المعارف من الشعر الفارسي والعربي الجاهلي والفيزيا الكونية إلى علم النبات، ونسب العرب.
وكانت ذاكرة العم صالح فولاذية، فكان يحفظ ما يقرأ فورا، وذاكرته تذهلني باستحضاراتها العجيبة. زرت العم صالح بعد غياب عشر سنين كما أسلفت، ونصحني أحد ابنائه بالتريث، إلا أني أصررت.
لما رأيت العم صالح عرفت سبب تردد ابنه، ليت أني ما رأيت ما رأيت، وبقيت صورة العم صالح كما هو في أصل مخيلتي وجوهر ذاكرتي. رأيته غائبا عن الواقع، هرِمًا وقد تضاءل جسمه الكبير إلى كومة هشة من اللحم والعظم لا يستطيع أن يفعل شيئا لنفسه، وقد أكل دماغه هذا المفترس الزهايمر.
لما دعتني الأستاذة نورة الخواجي لحضور المناسبة التي استضافتها أرامكو في مسرح «إثراء» بالظهران اعتذرت لها لانشغالي خارج المدينة، إلا أن الشابة نورة من النوع اللحوح، وكنت مترددا لضيق الوقت.
بعد أن رأيت العم صالح وحالته التي جعلت الأرض تدور بي حزنا عزمت وحرصت على حضور مناسبة جمعية الزهايمر التي أعتبرها واحدة من أنجح الجمعيات وأعمها نفعا لأكثر الأمراض شراسة.
وكان من فواصل الحفل عرض فيلم متقن الإخراج عن الزهايمر ومرضاه ومعاناة أقربائهم، وقلة العناية الصحية الرسمية بهم. كان ذاك الفيلم سهما توجه للقلب، وتذكرت العم صالح، فلم أعد أرى من كثافة الدموع.